×

تحذير

JUser: :_load: غير قادر على استدعاء المستخدم برقم التعريف: 596

طباعة

عبور بحر النار

عبور بحر النار

چاي راز، مصور، باحث وأمين معارض تصوير

هنالك من يدعي أنّ الوضع يمكن أن يستمر هكذا لسنوات. فمع مرور الوقت سوف يتغلب "نسيج الحياة" (التعارف المشترك والعلاقات الاقتصادية وما شابه) على العداء. هذه سخافة، والواقع يثبت ذلك الآن. فكلما استمر "نسيج الحياة" الحاليّ، يتضح أنه نسيج يغلّف قبضة حديد الكراهيّة ورغبة الانتقام... ويومًا ما سوف نستيقظ على المفاجأة المريرة... والسؤال ليس من المُحق، نحن أم هم، اليمين أم اليسار؛ إنه سؤال الحقائق والأرقام... تثبت التجربة التاريخيّة العالميّة أن هذا الوضع الذي نكرسه هنا لا يمكنه الاستمرار لفترة طويلة. وإذا استمر – فهو يتطلب ثمنًا فتّاكًا.

(دافيد غروسمان، الزمن الأصفر، تل أبيب: المكتبة الجديدة، الكيبوتس الموحد، 1987)

 

يعرض المصور عمّار يونس (مواليد 1969) في معرض بحر النار تشكيلة من صور التقطها على مدار السنوات السبع الأخيرة في إسرائيل، والسلطة الفلسطينيّة واليونان. لا توجد في هذا المعرض صور للصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ بروح الانتفاضتين (1987، 2000)، لا يوجد جرحى، لا يوجد قتلى، لا يوجد جنود، لا يوجد معقتلين وعصابة على عيونهم، لا توجد حواجز ولا يوجد دم. يعرض عمّار يونس نسيج الحياة الفلسطينيّة من وجهة نظره، وحين أنظر في صوره فإنني أشعر بأنّ كلمات غروسمان أعلاه ما زالت سارية في أيمانا هذه، ثلاثون سنة بعد كتابتها، تنبجس من بقع اللون الأسود والأبيض في الصور، فنسيج الحياة المشتركة للفلسطينيين في الصّور ولليهود الذي يشاهدون تلك الصّور، هو نسيج رقيق قابل للتمزق. قبل أن يصبح نسيج الحياة مشتركًا وكاملًا، يتطلب الاحترام المتبادل والاعتراف بالمختلف، لكن بما أنه غير قائمًا، فإنّ "الثمن الفتّاك" لم يقل بعد كلمته الأخيرة. تستعرض مجموعة الصور في المعرض التاريخ المعاصر للشعب الفلسطينيّ من وجهة نظر مصوّر عربيّ إسرائيليّ يُوثّق، ومشاهدو الصور من جميع ألوان الطيف القوميّ والسياسيّ يمكنهم التمعن في سرد بصريّ غير مرئيّ للعين، تمامًا مثلما لا يتم عادة عرضه في إسرائيل.

 

يستهل المعرض بصورة بحجم كبير لبيوت مدينة أم الفحم (2012). الصّورة الملونة والحسيّة المعروضة على حائط مدخل الجاليري كأنها تتحول إلى شبكة خيوط عنكبوت ترمي إلى اصطياد المشاهدين وجذبهم إلى الداخل، إلى داخل بيوت الآخرين: المُصوِّر والمُصوَّر. التصوير معروض مقابل الشبّاك الذي التقطت الصّورة من خلاله، الشبّاك المُطِل نحو الشرق، والناظرين إلى التصوير يمكنهم من هناك الإطلال على الحياة نفسها، بما فيها من ألوان السماء المُتبدلة، ومن هنا العودة إلى متاهة التصوير، الذي يلزمك بنظرة نحو المنظر الحضريّ المحاط بإطار الصورة، ومن هناك نحو المزيد من الداخل، إلى "الإطارات الصغيرة" – بيوت سكان المدينة. تستدعي هذه الصورة السؤال: من نزل مؤخرًا من شارع وادي عارة ودخل إلى قرى الوادي؟ من دخل إلى أحد البيوت؟ ما الذي تعرفونه عن الأشخاص الذين يعيشون هنا؟ من هو الشعب الفلسطينيّ بالضبط؟ أين يمر الخط الأخضر، في ترسميه السياسيّ هل شرقيّ وادى عارة أم على شارع وادي عارة نفسه؟

 

العمل التصّويري الثاني هو تصّوير جوي بانوراميّ (2017)، الذي يربط حدود وادي عارة ("ناحال عيرون") من مفترق الجلمة ("مجيدو") حتى مفترق عيون الأساوار ("حرس الحدود"). يستعرض التصّوير عمليّا حيز حياة يونس. هذه هي حدود المناظر اليوميّة، منها يخرج إلى حياته وإلى أعمال التصّوير. يتراسل هذا العمل مع تصوير بانوراميّ للجيش البريطانيّ من عام 1944، حيث تم تصوير الوادي لأغراض استخدامات عسكريّة للسيطرة والاحتلال. يتيح لنا يونس في عمله هذا من ناحية، التعرف على انتشار البلدات العربية على جانبي شارع 65، ومن الناحية الثانية الحفاظ على مسافة الامتناع ونظرة عن بعد على حياة "الآخر"، الذي نمر في حيز حياته عبر السفر اليوميّ على الشارع الذي يربط شمال البلاد مع مركزها. في المستقبل ربما يستخدم هذا التّصوير أيضًا كتصّوير عسكريّ أو تصّوير سيماته الرقابة والسيطرة.

 

مقابل هذه البانوراما هناك مجموعة بقاء اليراعات (2016). إنها سلسلة الصور الأخيرة التي صورت هذا العام على شواطئ اليونان. ذهب يونس هناك لتصوير اللاجئين الفارين من الحرب في سوريا، في طريقهم إلى للبحث عن ملاذ في غرب أوروبا. عمليّا يقوم عمّر يونس، عبر صوره، بتتبع أجيال الفلسطينيين الذين طردوا من البلاد خلال حربي 1948 و 1967. بطاقات الهويّة التي تنكشف له تبين لنا مسار ترحال اللاجئ الفلسطينيّ خلال سبعين سنة: فلسطين، سوريا واليونان، مشارف أوروبا الغربيّة. إلى جانب هذا الاكتشاف فهو يوثق إحدى أكبر قصص القرن الحادي والعشرين: حركة السكان من الدول لتي تسودها الحروب، أفريقيا وأسيا، نحو أوروبا الغربيّة، الغنيّة، التي تواجه اليوم مسألة الهجرة بأعداد كبيرة لم تعرفها سابقًا. يختتم معرض بحر النار فيلم فيديو صوره يونس عندما كان في مخيم اللاجئين وصعد على قارب في الطريق إلى أوروبا. يشمل الفيلم القصير على مقابلات مع لاجئين يروون تفاصيل حياتهم. الإحساس بتأرجح اللاجئين فوق أمواج البحر ترافق المشاهدين إلى انعدام اليقين الإسرائيليّ الفلسطينيّ، المتقلب والمترنح بتسارع كبير.

في كتابه بقاء اليراعات يتقصى جورج ديدي هوبرمان التصّوير الشاعريّ البيئي – ضوء اليراعات – الذي يقودنا عبر الأعمال الفكريّة لكل من بازوليني، بنجامين، هايدرغر وأغامبين إلى سؤال رئيسيّ واحد: "هل يمكن أن نجد في واقعنا المتكدّر مصدر ضوء، ولو حتى ضوء ليليّ يتلألأ فقط، يستطيع تحريرنا من التشاؤميّة التي لصقت الفكر النقدي المعاصر؟". وأضيف من عندي السؤال: إلى متى يرتحل الناس؟ حتى نهاية الحروب؟ هل يرتحلون بشعور التفاؤل أم التشاؤم؟ هل وسيلة التصّوير، التي تعرض اللاجئين خلال فرارهم، يمكن أن تكون ضوء اليراعات لجليلنا لتعويم صعوبات الهجرة في بحر النار، الماديّ والرمزيّ، في عصرنا، وحتى إلى درجة التغيير؟ للأسف، يبدو أن أجواء التشاؤم سوف تواصل الالتصاق بنا طالما ظلّت عيوننا كليلة أمام جثث الأطفال التي يقذفها البحر إلى الشاطئ.

بعد أن يدخل المشاهد "البيت" – البيت الماديّ والرمزيّ للاجئ الفلسطينيّ، فهو يخطو خطوة أخرى – إلى حيز أنساب سكان وادي عارة عامة وأنساب عمّار يونس خاصة. في مركز هذا الفضاء تعرض شجرة الأنساب الأبوية (2014) للمصور، المرسومة على الحائط. بين أغصان متاهة الأنساب عشرات الصور لأقارب العائلة في البلاد وفي الشتات الفلسطينيّ في أنحاء العالم، التي جمعها عبر الإنترنت، ولكل واحد وجه واسم وقصة. شجرة العائلة هي رمز شائع في صالون البيت العربيّ، وتشكل قصة جذور الشعب قبل عهد الكاميرات. يمنح عمل عمّار يونس الوجوه للصور المتناثرة بين أغصان الشجرة.

 

صور شيوخ الوادي عرضت لأول مرة في معرض ظلال الزمن: توثيق مصوّر لمسنّي وادي عارة (2012) في جاليري الفنون في أم الفحم، إلى جانب صور للمصور شاي ألوني. صور عمّار يونس تركز على الصور الشخصية عن قرب (ماكرو) والحميميّة للأجيال السابقة، بينما تتناول صور ألوني (عضو كيبوتس جيباع) توثيق مسنّي الوادي في فضاء المعيشة في صالون بيوتهم.

في نكهة فضاء الصالون البيتيّ، يشير د. كوبي فيلد:

 

في العديد من البيوت العربيّة انكشف أمام ناظري وفرة الأغراض، الأدوات البيتيّة، أغراض الزينة والتذكاريّة، العديد من الأغراض في كل مكان [...] ليس فقط البيوت مكدسة بالأغراض، بل الأغراض نفسها مكدّسة بالتفاصيل: إطار صورة مزخرفة بأدوات موسيقيّة صغيرة، مزينة بالورود الحمراء، وشريط أزرق مربوط حول قيثار صغير ووردة صغيرة مغروسة في داخله [...] وعلى الطاولة وعاء أبيض عاري الحواف، مزخرف بنقوش دقيقة تشبه عناقيد العنب الوردي وورق الدوالي الصغيرة. ومن بين نماذج الورق والعناقيد تبرز (بواسطة سلك معدنيّ رفيع جدًا) فراشة ذهبية ناعمة، تطير فوق موزة بلاستيكيّة.

 

في صور ميسنّي الوادي يمكننا مشاهدة إلى جانب بورتريه الشخص فضاء البيت الذي يعيش فيه أيضًا. عمّار يونس يحكي عن سيرورة عمله:

 

لسبب ما توجّهوا إلىّ من معرض الفنون لأُكمل ما بدأه شاي ألوني. قام بعمل البحث الميداني واختيار المتصوّرين مصوّر الفيديو غسان محاميد، الذي يعرف المسنّين إثر قرابة عائليّة أو لسنوات طويلة. "اذهب صوّر أبا محمود:، قالوا له، "عمره تسعون عامًا. اسأله عن فترة خدمته في الجيش التركي وكيف هرب ووصل سيرًا على الأقدام من سوريا إلى البلاد". أوكل العمل إلى اثنين. قام غسان بالمقابلات وتصوير الشيوخ أسبوعًا قبل وصولي إليهم. سمع القصص وجهّز عمليّا اللقاء لتصوير اللقطات، وحتى نختصر وقت التجهيزات، طلبت منه اختيار لقطات متميّزة وترتيبها وفق ساعات اليوم.

[...]

 

الشيوخ مثل عارضات الأزياء في بداية طريقهنّ. أينما تطلب منهم الوقوف، يقفون. كيفما تطلب منهم النّظر ينظرون. والزوجة تتحكم دائمًا بوضعيّة زوجها. "رتب عباءتك يا أبا محمود"، تعلّق واحدة، "أخبرتك أن تحلق يا أبا جهاد"، تضايق الثانية، "صوّره بالقرب من المكتبة، مع كل الكتب والشّهادات"، تقترح ثالثة. ويسير كلّ شيء كما يجب إلى أن يرتفع صوت المؤذّن  بنداء الله أكبر – أذان الصّلاة. لك أن تتحدث مع الجدران أو تصوّرها. يصلّون في المسجد خمس مرّات في اليوم، من يستطيع ذلك طبعًا. واثنان من مواقيت الصلاة يرتبطان بتخطيط بوم التصّوير. الصّلاة في الثانية عشرة ظهرًا والصّلاة قبل غروب الشمس بساعتين.

سلسلة عرائس بالأبيض تستعرض مسنّات الوادي في بيوتهن الخاصة، تصّوير أسود وأبيض حساسة وشاعريّة. إلى جانب سلسلة الصور هذه يُعرض فيلم فيديو قصير يوثّق فضاءات حياتهنّ ووتيرة حركة "العرائس". وهكذا يصف عمّار يونس العمل على هذه السلسلة:

 

كان جوهر السلسلة تصوير وتوثيق نساء مسنّات تجاوزن الثّامنين من عمرهنّ، واعتبرن جميلا القرية في الماضي. توثيق حيّاتهن اليوميّة ومكافحتهنّ وتحديهّن للشيّخوخة وضياع الزّهوة التي اشغلتهنّ دومًا وتمثّلت بالتحضيرات لأزوف ساعتهنّ حينما يرتدين جميعهنّ اللّون الأبيض.

[...]

 

الانفتاح والخصوصية اللذين أحسست بهما مع المتصوّرات ساهما بلا شكّ في جودة الصّورة النّهائيّة. "تجد في صورهّن مكاشفة شعوريّة نحوك. أنا أشعر بثقتهّن بك وباعتمادهنّ على ما تقوم به"، هذا ما أخبرني به مصوّر صديق.

[...]

"أين تريديني أن أجلس"، سألت الحاجّة فاطمة. "حيثما ترتاحين" أجبتها. "اجعل صورتي جميلة كما كنت في الماضي"،  لفتت انتباهي بصوت ضاحك، "عندما كنت في العشرين من عمري كنت أجمل امرأة في القرية وأراد الجميع أن يتزوّجني، لكن والدى طلب مهرًا غاليًا ولم يستطع أحد دفع هذا المهر"، تابعت حديثها. "أنت جميلة اليوم أيضًا"، أجبتها بينما كنت أعالج العدسة، "وأنت مؤدب وكاذب بمقدار ما أنا جميلة"، أجابتني بابتسامة وهي تعدّل المنديل فوق رأسها.

 

إلى جانب صور المسنين في صالون بيتهم، صوّر عمّار يونس سلسلة من 21 صورة بورتريه في الاستوديو على خلفية سوداء. تعرض السلسلة رجالًا ونساءّ معًا، والمعروضة في المعرض على شكل شبكة وكأن المتمعّن في سمات وجوههم يشاهد خارطة مسارات وادي عارة. أضيف مؤخرًا إلى سلسلة مسنّي الوادي سلسلة من 21 صورة، عنوانها شباب الوادي (2016). في هذه السلسلة، المصورة وفق صيغة مشابهة بفارق واحد – خلفيتها بيضاء، تبزغ وجوه أبناء جيل حاضر ومستقبل فضاء وادي عارة، وجوه أبناء جيل جديد وعصريّ يحاولون المضيّ قدمًا بحياتهم. من الناحية الثانية، هذه السلسلة هي أيضًا توثيقيّة تاريخيّة، مع مر السنين سوف تشكل منعطفًا على محور زمن سكان الوادى – هكذا كنا في عام 2016.

في سلسلة يوميات حمار (2014) يوثّق عمّار يونس الحمار. الحيوان الذي تحول إلى أحد رموز الشرق الأوسط، الذي يثير تداعيات اجتماعيّة وسياسيّة متنوعة. رغم أن الحديث عن حيوان ذكي واجتماعيّ، فهو يعتبر مهزئة. تشمل هذه السلسلة وجهتيّ نظر، الأولى مُسلية والثانية سوداويّة. اخترت أن أعرض في هذا المعرض وجهة النظر السوداويّة، لأنه مثلما في البورتريهات الإنسانيّة، يركز عمّار يونس نظرته المباشرة على الحمار وشقاء حياته.

يقول عمّار يونس عن هذه السلسلة:

 

في البحث عن الحمير وصلت إلى مزرعة في موشاف جان ياشيا في عيمق حيفر واسمها "جنة عدن محميّة للحمير". تدير المزرعة جمعيّة إسرائيليّة ممولة من بريطانيا. "الإسرائيليون والفلسطينيون يرمون الحمير، ونحن نعيدها ونمنحها العلاج المناسب"، قال لي مصطفى، شاب صغير من قلنسوة يهتم بتلك الحمير هو وأخيه. عندنا في الشرق الأوسط يتحدث الجميع عن الاحترام، لكنهم لا يعرفون دائمًا التصرف باحترام مع الغير. بحثت عدستي عن قرى صغيرة حيث يتم التعامل بودية واحترام مع هذا الحيوان، الذي تم نبذه إلى الهامش. العديد من أصحاب الحمير قالوا لي أن الحمار يعتبر واحدًا من أفراد العائلة، ومنحوه اسمًا بشريًا.  عندما سيأتي مسيح السلام فهو سيأتي راكبًا على حمار، نستقبله كلنا، عربًا ويهودًا، بأذرع مفتوحة، ونعلم أيضًا كيف نرعى الحمار الذي جلبه، فمن لا يحترم الحمار، فهو ليس إنسانًا.

سلسة الصّور الملوّنة Waste Bank (ضفة القمامة، 2013) توثّق المزبلة الكبيرة قرب القرية الفلسطينيّة يطا، على الجنوب من محافظة الخليل، كأنها تستعرض "الساحة الخلفية للساحة الخلفية" بين البحر والنهر. على مدار نحو ثلاثة أشهر وثّق عمّار يونس الأطفال والكبار الذين يعيشون في المزبلة. ثلاث مرات في الأسبوع كان يذهب إلى هناك، ويبحث مع السكان الدائمين عن الأغراض والغذاء في جبال القمامة، يقضي الوقت معهم وينام معهم، ولم يتوقف عن التصوير. في المعرض، إضافة إلى صور الستيل، وُضعت شاشة، وعليها تُبث الصّور التي صوّرها في هذا الواقع المعقد والمُحبِط.

 

في أحد الأيام كنت أشاهد التلفاز، وكان تقرير في الأخبار عن الأشخاص الذي يعيشون في ذلك الموقع. أصابني الذهول. كنت أعرف عن الفقر في البلاد وفي المناطق، لكن تلك المشاهد كانت مُرعبة: الأشخاص الذين يبحثون في القمامة عن أغراض يمكن أن يبيعونها ليربحوا منها بضعة شواقل في اليوم، الأطفال الذين يعيشون ويأكلون من الزبالة. تطلعانا زوجتي وأنا الواحدة على الآخر وعرفنا أن هذا سيكون مشروعنا الجديد.

[...]

عندما وصلت إلى القرية في المرة الأولى، لبست ملابس  رثة وتركت المعدات في السيارة. شاهدت الذي يفعلونه وبدأت أنقب في القمامة مثلهم. وفورًا عرفوا أنني لا أعلم ما الذي أفعله فساورهم الشك، وحالًا سألوني من أنا واستدعونا إلى التحقيق في خيمة عند معلم المزبلة. حكيت لهم أنني شاهدت التقرير في التلفاز، فقالوا أن التقرير عرضهم بصورة سلبية. اقترحت بأن أقوم بعرضهم بصورة مختلفة، لكنهم قالوا لي أنهم لا يريدون المزيد من الصحفيين. فقط بعد أن عدت للعمل في المزبلة، وثرثرت معهم قليلًا ووجدت بعض الأشخاص للتوسط ببينا، فقط عندها أحضرت الكاميرا. عندما نظروا إلى شعرت أنني أخرج السلاح.

[تدريجيّا ذاب الجليد وبدأ عمّار بالتصّوير].

تركتهم يلعبون في الكاميرا، واقترحت أن يصوّروني. الأطفال كانوا أول من سمحوا لي بتصويرهم، وبعدها وافق الكبار. البعض أراد أن يموضع نفسه جيدًا للتصوير، وكان شاب أراد أن أصوره وهو يلبس لباس جنود حرس الحدود ويحمل لعبة بندقيّة – الصورة التي لن تُعرض في المعرض.

 

[...]

بعض الأشخاص الذين يسكنون هنا يتقبلون الوضع. ليسوا راضين، لكنهم يفضلون العمل بالزبالة برأس مرفوع على الذهاب للعمل في إسرائيل، وانتظار التصاريح والانتظار على الحواجز. بعضهم، وخاصة الأطفال، غاضبون على عائلاتهم، البعض الآخر يتهم العالم كله، وأيضًا قصة الاحتلال تتداخل هنا. ولكنهم في نهاية المطاف، لا يتذمرون. بالنسبة لهم هذا عمل مثل أي عمل آخر".

        

لشدة المفارقة، فإن العلاقة مع إسرائيل وأعياد إسرائيل تبرز بالذات في المزبلة: بمناسبة الأعياد، يشتري اليهود الذين يعيشون في المنطقة أدوات كهربائيّة وأثاث جديد ويرمون القديم إلى المزبلة. نعم، أعياد إسرائيل هي فرصة مربحة للعاملين في الزبالة.

 

حياة فقر العمال السود تجد تعبيرها في سلسلة صوّر ملوّنة بعنوان رجل الفحم (2010)، التي تثير التساؤلات، مثل: ما هي الأشجار التي تظهر في صور عمّار وكأنها خرجت من رسومات كلود مونيه؟ إنها جذوع أشجار حمضيات؛ فمن أين أتت؟ من إسرائيل داخل الخط الأخضر، التي تقلع البيارات لغرض العقارات؛ وما الذي حُرق هنا؟ هنا تُحرق جذوع أشجار البرتقال والحمضيات التي كانت تُعرف باسم JAFFA. العلامة التجارية التي ولدت في بداية أيام الصهيونيّة، والتي بقيت اليوم بدون ثمار الحمضيات الإسرائيليّة وتباع لكل من يدفع أكثر. تتحول الأشجار إلى الفحم، وهو يباع في إسرائيل ويستخدم للكانون في أيام العيد والمناسبات، وتبلغ ذروتها في عيد استقلال اليهود، وهو يوم نكبة الفلسطينيين.

يعود اسم أم الفحم إلى صناعة مشاحر الفحم. المهنة القديمة التي انتقلت من وادي عارة إلى مناطق السلطة الفلسطينيّة، وفي ضواحي قرية يعبد بالذات.

يقول عمّار:

 

السلسة توثّق بدران سامي أبو بقر من قرية يعبد قرب جنين، الذي عاش في موقع حرق الفحم، في بيت الصفيح الذي بناه بيديه بمساعدة سخية من مشغله، الذي زوده بمولد كهربائيّ صغير وبرميل كبير يستخدمه للاستحمام ولاحتياجات العمل الجارية. وهو يستحم ثلاث مرات في الأسبوع بدافع توفير المياه. الفحم الذي نضعه في الكانون هو من مشحرة بدران من جذوع الأشجار التي تقطع من أماكن مختلفة في أنحاء البلاد. "أشجار الحمضيات هي الأفضل، يقول بدران، "فهي لا تحترق بسرعة وسعرها ليس باهظًا بالنسبة للفحم الذي ننتجه، لكن لم يبقَ الكثير من البيارات، فاليهود يقتلعون الأشجار ويبنون المباني مكانها". المرحلة الثانية هي ترتيب جذوع الأشجار على شكل مخروطيّ. كبر المشحرة يتحدد وفق كمية الأشجار التي يحصل عليها في ذلك اليوم، أو وفق طلب الزبون. بعد أن يضع الجذع الأخير على رأس الشكل المخروطيّ يبدأ بتغطيتها بالقش لإشعالها. يتم ذلك بشكل دوائر نحو الأعلى وبشكل متناسق على كل قطعة في المشحرة، حتى يغطيها كلها بالقش الأصفر. بعد ذلك يلفها بالنايلون وفوقه ينثر التراب.

 

صناعة الفحم داخل حدود إسرائيل بدأت تندثر، بسبب التعليمات الصارمة لوزارة البيئة (بسبب الغازات التي تنتج عن الحريق) وكذلك بسبب شحة مصادر الخشب المطلوب لصناعة الفحم. توثق صور هذه السلسلة تلك العمليّة التاريخيّة، التي تحدث وراء الخط الأخضر.

في العام نفسه الذي تم فيه تصوير سلسلة رجل الفحم، جرى أيضًا تصوير سلسلة حريق الكرمل (2010)، التي وثّقت الحريق الفظيع الذي هدر خلاله 44 شخصًا حياتهم. خريف 2010 كان بلا أمطار بشكل استثنائيّ وجلب معه ظروف الجفاف المتطرفة. في الثاني من كانون الأول 2010، نتيجة حرارة الطقس المرتفعة على نحو خاص والرياح الشرقيّة الجافة تسببت بانتشار النيران التي اشتعلت غربيّ القرية الدرزيّة عسفيا إلى غابة الكرمل وحدوث الحريق الكبير. استمر الحريق أربعة أيام، قام خلالها عمّار، إلى جانب مصوّري الصحف، بتوثيق أحداث الحريق، وعلى رأسها صورة حافلة رجال الإطفائيّة التي اشتعلت قرب بيت أورن، وكذلك محاولات الإنقاذ واخماد الحريق. لهذا المعرض تم اختيار صور مشاهد النيران فقط، بدون توثيق جثث الضحايا التي كانت ملاقاة محروقة في الغابة.

يظهر في كتالوج المعرض عملين آخرين لا يشاركان في المعرض: الأول، ويشمل صور عشوائية من سنوات عمل عمّار لا تنتمي إلى سلسلة معيّنة؛ والثاني، ويشمل صور من بداية مشواره المهنيّ – صور تحت الماء في البحر الأحمر. هذه هي طريق عمّار، بدايتها تحت الماء، والتي صعدت تدريجيّا إلى سطح الأرض وتحولت إلى العبور الفلسطينيّ للبحر الأحمر، وهذه المرة المُحتل هو الإسرائيليّ والباقي هو الفلسطينيّ. عمّار هو أحد مصوريّ الأوديسة الفلسطينيّة.

الخاتمة أو: كل سوسنة

مثل العديد من الصّور التي انتجها مواطنو "أمة المصوّرون"، حيث وجهة نظرهم هي بطاقة هويّتهم، أيضًا لصور وأعمال عمّار يونس لا يوجد حدود – لا خطوط خضراء ولا حمراء؛ لا بطاقة هويّة زرقاء ولا برتقاليّة. للهويّة القوميّة، وبالطبع للمشاعر القوميّة، لا توجد حدود، وبالطبع ليس للهويّة التي تعيش في المنفى. صُوِّر المعرض هذا ويُعرض في فضاءات هويّات متوازية: فضاء الهويّة الفلسطينيّة وفضاء الهويّة الإسرائيليّة. وهو يتيح التمعن عن قرب بالصّور الإحساس بالتوتر القائم بين الهويّتين.

 

في عام 1994 عرضت في تل أبيب معرض سبع سنوات، الذي تناول الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ من وجهة نظر الأطفال. يشير اسم المعرض إلى السنوات السبع العجاف منذ بداية الانتفاضة الأولى وحتى العمليات التفجيريّة في الحافلات خلال الانتفاضة الثانية. ضم كتالوج المعرض قصيدة "كل سوسنة" للشاعرة زيلدا، التي كُتبت مباشرة بعد حرب الأيام الستة. زهرة السوسن في القصيدة ترمز إلى جزيرة من السلام الخالد، القائمة على بعد ملمس منا. يعيش في الجزيرة طائر ياقوتيّ، وهو طائر الحرية واسمه "فيطبعون"، لكن بغية شم الزهرة أو الوصول إلى بر الأمان، ينبغي على الإنسان عبور بحر النار.

 

عشرون سنة مضت منذ ذلك المعرض. معرض عمّار يونس من قرية عارة، في صالة العرض للفنون في أم الفحم، هو محاولة حسّاسة لوصف حالة إنسانيّة داخل بحر النار. ينتقل المشاهد بين وجهات النظر، وكأنه ينظر عبر مشكال فضاء الهويّات الفلسطينيّة. يعرض عمّار بورتريهات أشخاص: عمال كادحون، مسنّوون، شقوق التاريخ محفورة على وجوههم، وشباب جلودهم ما زلت غضة. الفجوة بين الصّور الجميلة والواقع الذي توثّقه هو نوع من المتاهة، التي تطرح السؤال: إذا كان جميلًا إلى هذا الحد، فلماذا هو صعب جدًا هنا؟ خلف الزمن الأصفر المتواصل يتفجر اليأس الكبير، والذي يبدو أن عيونه السوداء تجلب وابلًا من الألم القادم إلينا.

 

 

كل سوسنة

 

كل سوسنة جزيرة

من السلام الموعود،

السلام الخالد.

في كل سوسنة يعيش

طائرة ياقوتيّ

اسمه "فيطبعون".

ويبدو

قريبًا جدًا

ضوء السوسنة،

جدًا قريب

عبقها،

قريب جدًا،,

هدوء الورق،

جدًا قريب

الجزيرة نفسها –

خذ الفُلْكَ

واعبر بحر النار.

 

(زيلدا، خلوة: قصائد، تل أبيب: هكيبوتس همؤحاد، 1967)

.


 

البنود ذات الصلة (بواسطة علامة)

  • معرض قط الشوارع معرض قط الشوارع

    معرض "قط الشوارع" يمثل فصلًا زمنيّا يُربي على خمسة وعشرين سنة من أعمال الفنّان فريد أبو شقرة، يشمل المعرض أعمالًا هي تكريم شخصيّ من فريد لابن عمه الرسام المرحوم عاصم أبو شقرة (1961-1990)، الذي كان شريكًا وصديقًا ومصدر إلهام.